التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة




رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه .

السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ  الرواية بفاتحة وموقف  لايفهم إلا بعد أن يكتمل المشهد في ذهن القارئ , بعد أن يقرأ كل الأحداث ويلم  بكل التفاصيل ويعود مرة أخرى  . مشهد  عادي جدا عندما تقرأه  للوهلة الأولى ,عميق و رمزي جدا عندما تعود إليه بعد ذلك وذلك هو دأب فرجينيا في الكتابة . فرجينيا في الكتابة لاتترك التفاصيل مهمشة أو متجاوزة , ولاتجعلك بإسهابها في التفاصيل تمل , بل تجعلك تتساءل بعد كل فقرة هل انتهت؟ هل انتقلت ؟ لأنها تغوص عميقا في كل جملة وتأخذك في رحلة الغوص الجميلة تلك. 
مس دالاوي أو كلاريسا بخيلائها  في علاقتها مع رتشارد زوجها ,  وعجرفتها التي تظهر في علاقتها مع بيتر ومسكنتها في علاقة الأم وابنتها شخصية تتضاربها الأمزجة والأفكار . البرجوازية الخمسينية  تلك تجعلك تتساءل : هل هذا التضارب هو حلة الخمسين ومرحلة من الانتقال تحتاج إلى فهم واستيعاب ؟ انتقال من نصف ملئ بالشباب والصحة والجمال إلى نصف قد لايكتمل وهو ملئ بالمتاعب والأمراض والوحدة ؟ ربما .

 علاقة كلاريسا أو مس داولاي ب ريتشارد زوجها علاقة غريبة , ليست صحية تماما وليست سيئة تماما , لكنها تخضع لترتيبات مميزة ..معايير الاستقلالية , الهدوء , الانضباطية حاضرة أكثر من أي شيء آخر ,كلاريسا تقول : في الزواج يجب أن يتوافر ثمة ترخيص بسيط , استقلال بسيط , بين أناس يعيشون معا يوما بعد يوم في بيت واحد " تكمل : أين هو هذا الصباح مثلا ؟ في لجنة ما .. لم تسأل أبدا ماهي ."  بمثل مقدار الاستقلالية الذي تقدم تأخذ . علاقة باردة نوعا ما , مضمونة ومثالية . يبقى الحال على هذا الهدوء حتى يعود بيتر صديق طفولتها وشبابها , لاتقول لك فرجينيا مباشرة أنهما يحبان بعضهما , أنهما يحملان مشاعر لم تنضب رغم مرور السنين وتبدل الأحول لكنك وبعد أن تنتهي , تتساءل ؟ ماهو موضوع الرواية ؟ ماهي العقدة التي بنت عليها فرجينيا هذه الحبكة , تعود لتكتشف بنفسك أنها قصة حب معقدة !  هذه هي براعة فرجينيا وهذه هي موهبتها , رغم أنها تسهب بك بعيدا في كل صغيرة إلا أنها لاتكشف لك المغزى الكلي , و موضوع القصة .

سبتيموس وزوجته : حالة صراع بين زوج يظهر أنه مريض نفسي , نفسية مابعد الحرب , وزوجة مناضلة . تركض خلف أوهام شفائه والعودة للإستقرار , نضال يعبر عن ضعفها وقلة حيلتها , عن مايحتمل النساء لأزواجهم , عن العاطفة التي لاتنضب . عن قسوة الرجل وأنانيته . علاقة تستشف منها قدر هائل من الإيحاءات وشخصيتين في محلهما تماما من الصراع الذي يحدث في الرواية, علاقة أضافت الكثير ووازنت بين طرفي القضية .

هناك مقاطع لابد أن تسوقفك لتقرأها مرتين , وأحيانا ثلاثة , دقة الوصف وروعته تحتم ذلك , سأحاول كتابة البعض هنا , رغم أني بهذه الطريقة أقتطع النص من سياقه لكن لعل من يقرأها  يعتبرها دعوة جدية محمسة لقراءة هذا العمل الرفيع .

عن  كلاريسا :"كم من المرات رأت فيها وجهها , ودائما بالتقلص ذاته الذي لايمكن إدراك كنهه , انها تزم شفتيها حين تنظر في المرآة وذلك لتعطي وجهها خاصية تلك هي بنفسها - ثاقبة , أشبه شيء بالسهم المارق واضحة . تلك هي بنفسها عندما تكون دعوة ما بأن تكون كما هي ,  تقوم بتجميع الأجزاء بعضها إلى بعض وهي وحدها تعلم شدة تباين هذه الأجزاء وتنافرها , فتؤلفها هكذا من أجل الآخرين فقط مجموعة في مركز واحد , في ماسة واحدة , في امرأة واحدة تجلس في صالة الاستقبال فتخلق نقطة التقاء , تخلق بلا ريب اشعاعا في بعض النفوس الخامدة , ملجأ ربما يلجأ إليه المستوحد , لقد عاونت شبانا كانوا ممتنين من جميلها , حاولت أن تكون هي هي دائما , دون أن تبدي شيئا ينبئ بجوانبها الأخرى -العيوب , الغيرة , الغرور , الشك ..."

"ليس هناك أسوأ لبعض النساء من الزواج ومن السياسة "

" لكن الغرور الذي لايقهر ويصرع دائما الحشود المناهضة له , النهر الذي يقول امض , امض , ومع أن الغرور الذي لايقهر يقر بأننا قد لايكون لنا هدف على الإطلاق , إلا أنه يقول امض امض هذا الغرور الذي لايقهر قد بث في خديها لونا , جعلها تبدو فتية جدا , وردية جدا , لامعة العينين جدا "

" دار في فكر بيتر : إن مستقبل الحضارة مودع في ايدي شبان على هذه الشاكلة , شبان من مثل ماكان هو عليه , قبل ثلاثين سنة خلت , بحبهم المبادئ المجردة شبان يطلبون كتبا ترسل إليهم طول المسافة من لنن إلى قمة الهمالايا , يقرأون العلم ويقرأون الفلسفة .قال في خاطره إن المستقبل مودع في أيدي شباب على هذه الشاكلة .

عن بيتر أيضا " شعر أن باطن عقله يتسطح كمستنقع , وأطبقت عليه ثلاث عواطف عظيمة , التفهم عمل الخير , وأخيرا ابتهاج رهيف لايكبح كما لو أنها من أجل الآخرين , كأن في باطن عقله يدا أخرى سحبت الخيوط وفتحت المغاليق , وأنه وهو الذي لاعلاقة له بالأمر قد وقف مع هذا عند مفتتح جادات لاتنتهي لو شاء جلس فيها , لم يشعر منذ سنين بهذا القدر من الفتوة " .

" غلالة أثر غلالة , بدت المرأة التي فكر فيها بيتر على الدوام , شابة لكن مهيبة , مرحة لكنها متحفظة , سمراء لكنها فاتنة " .

" هناك لحظات تبدو له فيها الحضارة حتى من هذا النمط , غالي كأنها ملك شخصي , لحظات من الفخر بانجلترا بحاشية الخدم والحشم , بالكلاب الصينية , بالفتيات وهن آمنات . بدا له أن الأطباء ورجال الأعمال والنساء القديرات وكلهم يقومون بأعمالهم الكل يراعون المواقيت , يقظون أشداء , انما يمثلون شيئا رائعا , وأن هؤلاء طيبون يأتمنهم المرء على حياته "

يفكر بيتر في السيدة دالاوي وابنتها " تحاول ان تبرهن كأغلب الأمهات أن الأشياء ليست ماهي عليه , والابنة بدا له أنها تتكل على فتنتها أكثر مما ينبغي وتبالغ في ذلك "

" انه وهو الملحد في دينه ربما , يؤخذ على حين غرة بلحظات من التجلي الفائق , وهو يرى أن لاشيء يوجد خارجنا سوى الحالة العقلية , سوى الرغبة بالسلوان , بالفرج , بشيء ما خارج هؤلاء الأقزام التعساء , خارج هؤلاء النساء والرجال الهزيلين القبيحين الجبناء "!

" ذهب إلى العشاء متأخرا بعض الشيء بفكرة غبية هي أن يلفت إليه الأنظار "

" الجميع يتخلون عن شيء ما حين يتزوجون !"

عن سبتيموس وزجته " فجأة وهما يقفان عند النهر في أوج لحظات سعادتهما (الآن سنقتل أنفسنا ) قال . ونظر إلى الماء نظرة كانت قد رأتها في عينيه حين يمر قطار أو باص - نظرة وكأن شيئا قد فتنه "

عن بيتر " إنه لايزال وهو في عمره كأنه فتى بل كأنه فتاة , تراوده المتقلبات المتوالية في المزاج " أيام حسنة , أيام سيئة . بدون سبب على الإطلاق , السعادة لمرأى وجه حسن التعاسة التامة لمشهد امرأة رثة الملبس "

" كانت السنوات الخمس التي غاب فيها عن الوطن هامة جدا بالنسبة إليه . الناس بدو مختلفين , الجرائد مختلفة . هناك مثلا الآن رجل يكتب بصراحة تامة  في صحيفة أسبوعية  محترمة عن المراحيض. هذا مالم تكن تستطيع فعله قبل خمس سنين -أن تكتب عن المراحيض بصحيفة اسبوعية محترمة - ومن ثم عادة استخدام احمر الشفاه والمساحيق والتزين أمام الناس ! تواصل الشبان والفتيات على المكشوف بدون أن يكونا مخطوبين , الكثير والكثير "

"قالت إنه عينة نموذجية لنمط خريجي المدارس الخاصة , مامن بلد سوى انجلترا يستطيع أن ينتجه "

"ذلك أن هيو من بين جميع الناس الذين عرفهم اطلاقا كان أكثرهم تنفجا -خنوعا- لا , إنه لايتمسح بالأذيال بمعنى الكلمة , فهو من الاعتداد المتكلف بالنفس بحيث لاينحدر إلى هذا المستوى . قرينه الصحيح هو خادم خاص من الطراز الأول -شخص يسير إلى الوراء حاملا حقائب , يمكن الوثوق به لإرسال برقيات "

" السيدة هيو تخلت أحيانا عن المظاهر , كانت امرأة من أولئك النساء الضيئلات المغمورات الشبيهات بالفئران واللاتي يعجبن بالرجال الكبار . إنها تكاد تبدو تافهة . والمسائل الجادة هي أكثر من طاقتها بعض الشيء إنها مسائل تجعل الجو ثقيلا ".

" ماكانت تقوله هو أنها تكره كل امرأة رثة الثياب وكل رجل محافظ رجعي . وكل فاشل . كانت ترى أنه لايحق للناس التسكع مترهلين وأيديهم في جيوبهم , انهم يجب أن يفعلوا شيئا وأن يكونوا شيئا "

" كان عليها وهي بضعف ذكاء زوجها أن ترى الأشياء من خلال عينيه , وهي احدى كوارث الحياة الزوجية , انها يجب عليها دائما على استقلال عقلها أن تقتبس كلام رتشارد فتستشهد به . هذه الحفلات مثلا كلها من أجله أو من أجل فكرته عنها ."

" وراء كل تلك الشبكة من الزيارات وترك البطاقات وإظهار اللطف للناس والركض هنا وهناك , باقات الزهور الهدايا الصغيرة , -إن فلانة الفلانية ذاهبة إلى فرنسا يجب أن يكون لديها وسادة هوائية - هذه الأمور تمتص قواها امتصاصا حقيقا ,لكنه تفعله بصميمة وبسليقة طبيعية "

" ياله من شكسبير هذا , كيف يشمئز من الانسانية -ارتداء الملابس , انجاب الأطفال , قذارة الفم والبطن , ذلك قد انكشف لسبيموس الآن , الرسالة السرية التي ينقلها جيل إلى آخر بصورة متنكرة هي الاشمئزاز والكراهية واليأس . دانتي على الشاكلة نفسها"

" إذن فإنه مهجور , العالم كله يتنادى : اقتل نفسك , اقتل نفسك , . لكن لماذا يقتل نفسه من أجلهم ؟ الطعام لذيذ , الشمس حارة وهذا القتل للنفس كيف للمرء أن يدبره ؟ بسكينة أكل ببشاعة مع طوفان من الدم , بمص أنبوب الغاز ؟ إنه ضعيف جدا لايكاد يستطيع رفع يده !"


هكذا أخذتني فرجينيا في رحلة من أجمل رحلات قراءة رواية منذ فترة طويلة . يقال أن هذه الرواية أحد أسباب شهرة فرجينيا وقيمتها في عالم الأدب الانجليزي خاصة َ. والترجمة التي حصلت عليها بارعة ودقيقة وجميلة كما تلاحظ في الاقتباسات و كما شهد لها جبرا ابراهيم جبرا .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...