التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مراجعة لكتاب (تغير العقل )




(تغير العقل: يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا .
ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خلال دراساتها التي استمرت لأكثر من 10 سنوات واهتمامها بموضوع تأثير التقنية على العقل وآلية عمل العقل البشري والتجارب والدراسات المتعلقة بهذا الموضوع .
العالم الذي تتحدث عنه المؤلفة  تصفه في مدخل الكتاب " عالم لم يكن بالإمكان تصوره , عالم ثنائي الأبعاد(العالم الحقيقي يعتقد أنه ثلاثي الأبعاد) مؤلف من البصر والصوت فقط , يقدم معلومات فورية وهوية متصلة , ويتيح الفرصة للخبرات الآنية والمباشرة التي تتسم بكونها حيوية وفاتنة بحيث تتجاوز الواقع الكئيب من حولنا , عالم يعج بالحقائق والآراء التي ليس هناك وقت لتقييم وفهم حتى أصغر منها "
تتسائل المؤلفة هل بتنا كما كنا نعتقد بأننا راشدون ومسؤولون بما فيه الكفاية حتى نقوم بالتنظيم الذاتي لمقدار الوقت الذي نقضيه على الإنترنت ؟ تجيب بسؤال آخر : متى انتصر الحس السليم تلقائيا على الاحتمالات السهلة المربحة أو الممتعة ؟ ماعليك إلا إلقاء نظرة على مدمني التدخين الذين يموت منهم مئات الملايين كل عام دون أن يغير ذلك شيء في عادتهم " المتعة ".
تذكر المؤلفة مسائل مهمة كظواهر على المشاكل التي تواجه العقل بسبب التقنية تذكر منها على سبيل المثال : فترة الانتباه القصيرة التي يمتاز بها الجيل التقني والذي لايمكنك الحفاظ على تركيزه لمدة تزيد على نسبة معينة .وهم يطالبون الجميع باحترام فترة الانتباه القصيرة تلك فيطلبون من الإعلام جعل ذلك معيار مهم في نجاح أي خطة إعلامية. ويطلبون من المعلمين والمدربين اعتماد أمور وطرق إلقاء تجعلهم منشدين ومهتمين بما يتوافق مع فترة الانتباه القصيرة تلك .
الحياة الطبيعية تحت التهديد
 الجيل الرقمي جيل مهتم بالتعبير عن الذات أكثر من التعرف على العالم , جيل يتبنى آراء أصحاب المدونات المجهولة أكثر من آراء الخبراء المستنيرين . يستخدم هذا الجيل  التكنولوجيا بصورة أكثر تشتتا وسلبية وانفرادية وقبل كل شيء بصورة خالية من التميز الذي يوحي به ضجيج عالم المدونات والأنصار المتحمسين لثقافة الانترنت .هناك فرق كمي كبير بين التقنيات الرقمية السابقة ونظيراتها الحالية وهو مقدار الوقت الذي تحتكر فيه الشاشة اهتمامنا النشط والحصري بطريقة لم تكن مسبوقة ولم يسبق أن فعلها كتاب أو راديو أو سينما أو حتى تلفاز .تعرج المؤلفة على مسألة هامة هي أن العالم الرقمي الحديث يتحول من كونه وسيلة إلى غاية بحد ذاته , تقوم السيارة بنقلك والثلاجة بحفظ طعامك والتلفاز بتسليتك , لكن التكنولوجيا الرقمية تخلق عالما قائما بذاته رغم أن البعض يستخدمه للتواصل والتعلم أو تشغيل الموسيقى إلا أنه يوفر إمكانية أو حتى إغراء  لأن يصبح عالما قائما بذاته . من التواصل الاجتماعي إلى التسوق , والعمل , والتعلم , واللهو .فإن كل ما نقوم به في كل يوم يمكن أن يحدث الان في عالم موازي يتعذر تحديده . إذا فهي المرة الأولى على الإطلاق تتفوق فيها الحياة أمام شاشة الحاسوب على الحياة الحقيقة وخذ مثالا : يذكر أن ما نسبته 62% من مستخدمي الانترنت أول ما يقومون بعد استيقاظهم النوم هو فحص الهاتف79%   منهم يؤكدون انهم خلال الخمسة عشر الدقيقة الأولى من الاستيقاظ يقومون بذلك. في العام 2013 يذكر 25% من مستخدمي الهواتف الذكية في أمريكا أنهم لا يذكرون مرة واحدة لم تكن هواتفهم الذكية في متناولهم أو في الغرفة نفسها .  أيضا يذكر ما نسبتهم 24% أنه حدث وأن غابوا عن فعالية رئيسية أو لحظة مهمة من حياتهم أو حياة أحبابهم لأنهم كانوا مستغرقين في تحديث مواقعهم في التواصل الاجتماعي  وقتها . تقول " حتى المتعصب الرقمي الأكثر تشددا لا يمكنه الهروب من حقيقة بسيطة وهي أن كل ساعة يقضيها أمام الشاشة مهما كانت رائعة أو حتى نافعة , هي ساعة تقضى بدون الإمساك بيد شخص ما او استنشاق هواء البحر , الاسترخاء والاستمتاع في صمت ستصبح هذه الأمور سلعة نادرة لدرجة أنه بدلا من أن يكون جزءا طبيعيا من الذخيرة البشرية سيجد نفسه على قائمة الأمنيات المستقبلية الحزينة .  تذكر المؤلفة أجندة يوم لشخص رقمي متواجد في أغلب الشبكات الاجتماعية وبعد عرض تلك المهام الكئيبة تختم بسؤال : أي نوع من الأفراد سينتج في نهاية المطاف !

التفكير العميق والتركيز , العقل في مواجهة التكنولوجيا
 في نقطة هامة تذكر المؤلفة " لو وضعنا دماغا بشريا تتمثل مهمته التطويرية في التكيف مع بيئة لا يوجد بها تسلسل خطي واضح , حيث يمكن الوصول للحقائق بشكل عشوائي وحيث كل شيء قابل للعكس وحيث تبلغ الفجوة بين المحفز والإجابة حدها الأدنى وقبل كل شيء حيث الوقت قصير, فمن الممكن دائما تحويل قطار الأفكار عن مساره. وعند إضافة المشتتات الحسية لكون حي ومرئي ومسموع وواسع الشمول, قد تصبح أنت نفسك حاسوبا , إذا صح التعبير (نظام يستجيب بكفاءة ويعالج المعلومات بشكل جيد للغاية لكنه يخلو من الفكر العميق ).مجرد التفكير في هذه النتيجة تجعل الشخص يرتعب من فكرة العقل الحاسوب بل يتخيلها ويراها أمامه , عقولنا قادرة على مجاراة التكنولوجيا  لكن في مرحلة معينة قد لا تكون كذلك . فضلا عن أن مجاراة التكنولوجيا بحد ذاتها ليست تفوقا بل قد تعني فقدان قدرات أخرى لعقولنا أو ضعفها على الأقل .
 رواد التكنولوجيا يؤكدون أنه مهما بلغت التكنولوجيا من تطور فهي لا يمكن أن تحل محل التعلم العادي والقراءة من كتاب. هذا مايقوله مثلا إريك شميت الرئيس التنفيذي لقوقل ورئيس مجلس ادراتها " أشعر بالقلق من أن مستوى المقاطعة أي ذلك النوع من السرعة الساحقة للمعلومات يؤثر في الواقع على الإدراك وعلى التفكير العميق , مازلت أعتقد أن الجلوس وقراءة كتاب هي أفضل وسيلة لتعلم شيئ ما على الواقع , وأخشى أننا في سبيل أن نفقد ذلك ".
الشبكات الاجتماعية
إثبات الوجود , فيضان الوعي بأمور الآخرين , التعلق بالحاضر والآني , الاهتمام بالتفاعل اللحظي , فقدان الخصوصية , الاتجاه إلى عمل الأشياء لغرض مشاركتها فقط ,  أعراض تلازمت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين الأفرد وشكلت ثيم معاصر للتواصل اللحظي المدفوع من الخارج أكثر من الداخل .
تعمل الشبكات الاجتماعية على تحفيز ذات متخيلة تهدد الذات الحقيقية بكل ماتحويه من نقاط ضعف وفشل من أن يعاد تشكيلها واستبدالها بذات مثالية بصورة مبالغة فيها . كتلك المعروضة لجمهور مؤلف من مئات من الأصدقاء والمتابعين . مالذي يمكنه إذن , أن يحدث إذا مابدأت هذه الشخصية التي جرى تلميعها افتراضيا في استخراج ذاتك الحقيقية . حذف الوسم (untagging)من الصور الغير جذابة , حذف المشاركات المؤسفة والغير مقبولة , محو الردود القاسية وغيرها أمثلة على التحكم  الموجه نحو ذات مثالية .
وماهو مقابل الحصول على الاهتمام , والمزيد منه ؟ هو التقليل من مساحة الخصوصية بالطبع وتحول الحياة الخاصة إلى عامة على نطاقات ضيقة وواسعة . كانت شبكة الانترنت سابقا تسودها المنتديات وغرف الدردشة حيث لايوجد ملف شخصي للفرد يحمل كل معلوماته الشخصية ونادرا مايقوم الافراد بوضع اسمائهم الحقيقة في تلك المنتديات وغرف الدردشة . مما يوفر للأفراد بيئة آمنة نوعا ما لاكتشاف ذواتهم المكبوتة . أما اليوم بات الأمر مختلف فالحياة الواقعية و والحياة الافتراضية لم يعد بينهم ذلك الفرق أو تلك المسافة , وهذا يمثل تحولا هائلا ومهما : أصبح التواصل شخصيا على نحو محموم وبالتالي فإن الهوية هي القضية المركزية وكيف تتأثر في ظل هذا التواصل الشخصي المفرط . وتضع المؤلفة سؤال مهم هنا وهو هل يمكن أن تسد وسائل التواصل الاجتماعي الفجوة التي يجب على الأقرباء والأصدقاء سدها؟ أي  قدر الاهتمام الكافي الذي يحتاجه المرء ؟ فهي توفر استجابات فورية تقريبا للأفراد ويستطيعون من خلالها لفت الانتباه الكافي لجلب هذا الاهتمام, يبقى هذا سؤالا مطروحا من ضمن الكثير من الأسئلة الأخرى التي تنتظر إجاباتها .
 أجد هنا هذا الكاريكتير يلخص تطور قضية هوية المستخدمين الذي تغير كثيرا بين بداية انتشار الانترنت و حاليا .

-         الصورة الأولى على اليسار (1993) الكلب يقول لصديقه " على الانترنت لا أحد يعرف أنك كلب .
-         الصورة الثانية على اليمين (2015) الكلب يقول لصديقه " هل تذكر الانترنت يوم لم يكن أحد يعرف من أنت "

تصفح الانترنت
تتناول الكاتبة في هذا الفصل الأمر المتعلق بتصفح الانترنت, حيث الوصول المفتوح للمعلومات والبيانات اللانهائية لكل الأفراد. والسرعة الغير مسبوقة في الحصول على المعلومة . يذكر "جون بوهانون( الصحافي والباحث في جامعة هارفارد )والذي طرح موضوع " تأثير غوغل " وهي الظاهرة التي تجعل الانترنت بنكا شخصيا للذاكرة : كيف يؤثر على ذاكرتنا ويفعّل النسيان الطوعي للمعلومات .تستطرد الكاتبة في شرح أعمق لكيفية عمل الذاكرة وأنواع الذاكرات وكيف تترك عملية تصفح الانترنت بحثا عن أي معلومة وفكرة بصماتها على ذاكرتنا المؤقتة والدائمة . وتتناول بعد ذلك افتراضات من الوارد جدا وقوعها في المستقبل مع تزايد الاعتماد على المصدر الشبكي للمعلومات وسهولة استخدامه وتوفره . وقد اشتمل الفصل على دراسات وبحوث مثيرة للاهتمام في هذا الموضوع  .
وفي الفصول الأخيرة طرحت الكاتبة موضوع طرق التفكير بعد وقبل التقنية , ومالذي تغير بعد التقنية ؟. وتابعت بذكر التطورات والمخاوف التي تنتاب الباحثين والمهتمين بتأثير التقنيات الرقمية على عقولنا .أيضا الارتباطات بين العالم والواقعي والافتراضي وإلى أي مدى سيستمر هذا الارتباط . وهل هو في انفصال متزايد ؟ وهي فصول ثرية ومليئة بالافتراضات المعقولة التي ينبغي علينا نحن مستخدمي الانترنت اخذها على محمل الجد , لأن كل الإشارات حولنا تدل أنها ستحدث أو حدثت جزئيا بالفعل. ورغم كل المخاوف التي بدت منطقية بالنسبة لي على الأقل تشعر بعد أن تنهي الكتاب , بأنك يجب أن تعيد حساباتك مع نفسك بخصوص الطريقة السليمة لاستعمال التكنولوجيا , والطريقة الصحيحة لعيش عالمك الافتراضي , وتجد أنك محمل بعدد كبير من الأسئلة وعدد أكبر من الملاحظات والتأملات الذكية التي لم تلفتك في عالمك الجديد . 
مايجعل هذا الكتاب جدير بالوقت, جدير بالقراءة  والاهتمام . 





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...