التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بين #ماذا_تقرأ و #ماذا_تقتبس !


العبارات  التي تصفنا أو تصف أشيائنا بدقة ما كنا نتخيل أن الكلمات قد تشرحها, وتلك التي تشد انتباهنا وتدهشنا , أو تلك التي نتعجب أن كيف لم تخطر لنا على بال ؟ وتلك التي من بين كل الأسطر تجعلنا نتوقف لنفكر فيها أو نبحث عما يوثقها , بأن ندونها خارجا أو نشاركها أو نلتقط لها صورة, لا أحد ينكر أنها من الأشياء الخاصة والحميمية التي يشعر بها كل قارئ مع كتابه .

لكن مشاهد كالتالي : صور أسطر مظللة بالمحددات الملونة, عبارات بين علامات تنصيص تجدها يوميا في حسابات القراء  وغير القراء في المواقع وشبكات التواصل , رؤؤس وذيول  وحتى متون تدوينات ومراجعات عن كتب  وغيرها تمتلىء بهذه العبارات "المنصنصة".قد نتحدث أيضا عن عن تلك الفرحة أو كما نستطيع تسميتها  النشوة التي تعتري القارئ عندما يجد الاقتباس الذي يظن أنه كان يبحث عنه وأنه  اختصر كل معاني النص وغاياته ,هذا الاقتباس الذي  قد  يكون  معبرا عن حالة أو عن  شخص أو عن شيء , يهرول لنشره واستعراضه والدفاع عنه . البعض يصل شعوريا إلى مرحلة قد توصف بالبحث عن الكنز, الكنز المكشوف الذي ينافي طبيعته, ما يجعله يتجاهل أو يهمل الكنز الحقيقي .تجعلك هذه المشاهد وأكثر تتأمل وتفكر في هذا الأمر ,هل سيجعلنا هذا الاحتفال ننسى القيمة الحقيقية الرمزية ونلتفت بكل إدراكنا إلى بهرجة العبارات ودلالتها السطحية, أو هل نحن أمام نوع جديد من القراءة التي قد توصف  ب (القراءة بهدف الاقتباس)؟

المواقع والحسابات التي تختص بالاقتباسات اليوم أصبحت لا تعد ولا تحصى , متابعوها لا يحصون , الكثير منا مر بفترة من الجفاف الفكري واللغوي الذي جعل منه متعطشا مستعدا لاستقبال وتناول كل اقتباس. حقيقةً وجدتني في وقت من الأوقات أبحث عن الكتب التي أستطيع أن أجد فيها من الاقتباسات والعبارات الجاهزة ما يكفي لإثراء ملاحظاتي وأفكاري أو حتى تغريداتي و تدويناتي, تلك الاقتباسات التي تصف واقعا أراه أو التي أستطيع بسهولة إسقاطها على الواقع. وتلك التي تنال إعجاب الآخرين وتدعم رأيي في أحد الموضوعات. لكنني أدركت لاحقاً أن هذا السلوك في اختيار الكتب أو تصنيفها أو حتى في تناول النص ونشره  ليس بالجيد, فدور القارئ ليس محصورا في  التلقي والنقل فقط, إنما الدور الحقيقي له يكمن في القراءة الناقدة وتحرير المعلومة والتفكير في الرمز و النظر إلى ما وراء النصوص والعبارات.   
لقد بدأنا نفقد تلك التعليقات والملاحظات والمناقشات التي تزاحم النصوص الأصلية في مطالعتنا للكتب , الأفكار التي تنطلق شرحا وتحليلا أو تأييدا و تعقيبا على المخالف منها والمؤيد  لأفكار النص, بدأنا نفقد الإحساس والتفكير العميق  بالخلفيات والمتواريات عن وجه النص الظاهر لنا والبحث عن معناها الكامن , بدأنا نرى الكثير يتناقل الاقتباسات ,يُسلم بكل مافيها ,ينشرها دون أن يفكر بخلفياتها وبترابط الاقتباس بما هو خلفه وما هو بعده . عملية الفصل بين النص والاقتباس والتمرد الذي يريده المقتبس للأخير على الترابط يقلقني جدا.
وقد أتساءل أيضا هل يمكن أن يكون الاقتباس وسيلة لتبادل ونقل أفكار النصوص بطريقة موضوعية , معبرة عن السياق الحقيقي ,تساعد على الفهم والإدراك لا على التضليل ؟ حيث أنه من المعلوم جدا هذا الانفصال سببّ الكثير من سوء الفهم وتأويل النصوص بطريقة مجحفة لما تحمله في الحقيقة , فكم من الأحكام الظالمة التي صدرت في حق الكتاب والنصوص بسبب مُقتبس مستقصد التضليل أو حتى مقتبس آخر لا يقصد ذالك .
سيوران كان قد حذر من المفكرين الذين لا تعمل عقولهم إلا انطلاقا من الاقتباس على حد قوله لكنني في هذه المقالة  أحذر من القراء الذين يجعلون الاقتباس هدفهم  أو أولئك الذين يروجون ثقافة الاقتباس.


*مقالتي في مجلة قوارئ العدد الرابع 
رابط العدد https://t.co/np2KXfgsT7

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...