التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حلم اللحظة الراهنة

طالما سمعت عبارات مثل " عش اللحظة" " استغرق في اللحظة " وعبارات مشابهة ربما لا يعلم قائلوها صعوبة ما يطلبون !
يستفزني أنها لا تأتي إلا في سياقات مبتذلة: إعلانات تجارية لجلسات يوغا أو مشروبات غازية، دعوات لخوض تجارب سياحية وما شابه .حلم كبير هو الانفصال عن كل شيء والاستغراق في أمر واحد . انفصال غريب عن الإنسان الطبيعي . الذي يحمل ذاكرة صلبة لامحدودة وعقل واعي بطريقة ما.  يهرب الإنسان بكل اتجاه، يسعى بكل جهد، يجرب كل الوسائل التي تمكنه من التماهي مع لحظته. لكنه لا يفتأ يفشل ويدرك أنها ليست في المتناول . لذلك حاولت مرارا أن تكون اللحظة الراهنة هي التحدي. هي الهدف. هي الحلم ! أن تعيش اللحظة الراهنة يعني أن تكون تلك اللحظة أو التجربة هي البداية وهي النهاية، وهي المنتصف. أن تكون بدايتها بداية لكل شيء يخصها وأن تكون نهايتها نهاية ذلك التوقف والانفصال. هي أقرب إلى أن تكون تجربة سماوية. محاولاتي الجادة تفشل دائما وذلك له مبرر واضح. كيف سأفعل  وأنا الذي لم ولن أكن مخلوق اللحظة الراهنة ! أنا الذي يلازمني - لا أقول يلاحقني  فلا أمل في الفرار- شبح الماضي وخيال المستقبل ! أنا الذي أحاسب دائما على ما فعلت لا على ما أفعل الآن فقط !
أنا الذي أراعي بما مضى من عمري  كل ما أُقدم عليه : صغيرٌ على هذا ! كبيرٌ على ذلك!
أنا المقيد  بتجارب الآخرين وخبراتهم وعواقب أفعالهم، أنا المدفوع منذ ولادتي إلى نمط  تاريخي من العيش .
 أنا الباحث عن القصص. الشغوف بالعِبر والعظات. أنا الذي يراقب الضحايا ولا يدرك أنه ضحية.أنا الذي أحمل  نسبا طويلا، أسماء لا أعرف من أصحابها سوى حكايات تناقلها ابنائهم. حتى تلك الأسماء لا أحملها لوحدها مستقلة. إنما معها أعمالها وتاريخها المحرف قليلا أو كثيرا .الاستغراق في اللحظة طريقه وعر، لم يُمهد للإنسان بتاتا . ولذلك هو غريب عنه وهو موعود به  في الجنة " إن أصحـب الجنة اليوم في شُغُل فاكهون". هناك إذاً ربما يتحقق الحلم حيث يكون الانهماك في اللحظة الراهنة هو النعيم، هو الجنة. والعيش بالماضي حسرة وندما وبالمستقبل غما وخوفا هو العذاب، هو النار.       

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...