التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن علاقة متوترة !



يحكي فيلم In Time  عن حصول تغيير في العالم يجعل الأشخاص تتوقف حياتهم بعد عام من بلوغهم  الخامسة والعشرين إذا ما فشلوا في تحصيل وقت يضاف إلى حياتهم  ذلك أن الوقت يصبح مكان المال في كل شيء . يعيش الفقراء بأقل  رصيد ممكن ويواجهون دائما خطر الموت جوعا  ليس بسبب انتهاء الطعام بالطبع وإنما بسبب انتهاء الوقت . بينما الأغنياء في قصورهم وأحيائهم الخاصة يملكون  أرصدة ضخمة من الوقت قد تصل لقرون من الحياة يسأل أحد أبطال الفلم صاحبه ماذا لو كان لديك رصيد لانهائي من الوقت- كما لو أنه يسأل ماذا لو كنت تملك رصيد لانهائي من المال -  ماذا ستفعل به ؟ فيجيبه فورا سأكف عن مراقبته .
قد يجعل الفلم المشاهد  يربط بين إنفاق الوقت وإنفاق المال والمقاربة بينهم . ومقاربات من هذا القبيل قد تكون مألوفة وواردة للمشاهد والقارئ . لطالما مرت بنا نصوص و أمثلة وحكم وقصص وكل ما يخطر على البال عن أهمية استغلال الوقت وقيمته من خلال مساواته بالمال . تراكمت هذه المفاهيم وترسبت وترسخت ثم زادها مؤخرا النمط الاستهلاكي الانتاجي للإنسان العصري .
يشبه تعامل إنسان اليوم مع وقته طريقة تعامل الفلم مع الوقت , يشبهه من نواحي كثيرة .   فإنسان  اليوم متوتر من ضياع وقته دائما يستشعر  صرف الدقائق والساعات كما يستشعر صرف الدولارات هاجس الوقت يحضر دائما قبل أي هاجس إلا هاجس المال ربما . اتساءل ما الذي جعل هذا  الإنسان متوتر مع وقته متوجس من صرفه وآلية انقضائه .لا يندمج  فيه ولا يتصالح معه. يتعامل معه ك خصم حقيقي لايفتأ تهديدا بإقصائه  . 



جي ديبور في كتابه مجتمع الاستعراض يعرض فكرة ( الزمن الدوري -الزائف ) فيقول : هو زمن قد حولته الصناعة . الزمن الذي يجد قاعدته في إنتاج السلع هو نفسه سلعة قابلة للاستهلاك , يتم التعامل مع الزمن القابل للاستهلاك للمجتمع الحديث باعتباره مادة اولية لمنتجات جديدة متنوعة تفرض نفسها على السوق بوصفها استخدامات للزمن المنظم اجتماعيا .
أعتقد أن الوسائل المعروفة لصرف الوقت وتنوعها وتعددها وتوافرها. و الخطة الحياتية المعدة مسبقا لنمط عيش الانسان المتمدن.  والتي تبدأ من سنوات الدراسة المحسوبة بدقة -12 سنة في المدرسة و5 إلى 7 سنوات في الجامعة – إلى سنوات الوظيفة و سلم الترقية المعتمد على السنوات السابقة في الغالب والحد الأدنى والأعلى من العمر للتقاعد وغيرها الكثير , عززت هذه الطريقة الغير متوازنة في التعامل مع الوقت .
اليوم ترى الكل يبيع ويشتري وقته فعليا  والحزن على ما مضى من الوقت والهم مما قد يضيع منه مستقبلا هو هاجس فعلي. يتحسر إنسان اليوم مثلا على الدقائق المهدرة – بحَسَبِه-  في وقوفه بطابور عند صندوق محاسبة محل تجاري. أو اللحظات التي سيضطر أن يقضيها في انتظار فتح إشارة المرور. هذه الطريقة في التعاطي مع الوقت هي منتجة في ميزان الانتاجية المادية ربما. لكنني أتصور أنها كارثة على الانسان . الإنسان الذي  لا يستطيع أن يعيش وقته و يتصالح في قضائه. تصوري هذا نتج عن ملاحظات أحدها ربما هو تأمل لحال المحبَطين  المتعاجزين أو العاجزين  وحتى العاطلين . تأملت كثيرا وتساءلت ألم يكن هاجس الوقت الذي يتصورن أنه (فات ) على محاولات جدية لتغيير أحوالهم هو ما يعيق حاضرهم وربما مستقبلهم . 



قد أعتبر أن هذه حالة متقدمة من التأثر بمتعلقات الوقت ومراحله التي قسّمها لنفسه هذا الإنسان المتمدن. لأنك لو لاحظت لوجدت أنه حتى من انضبط في خط الانتاجية المرسوم هذا  في نهاية المطاف وعند قرار التقاعد مثلا غارق في كآبته. نسبة السعادة التي تشير إليها الدراسات عن المتقاعدين حديثا توضح ذلك. حتى أن بعض الاخصائيين اعتبر أن هذه المرحلة الانتقالية يكون الانسان فيها أحوج ما يكون إلى احتواء المقربين منه . تماما كما يخرج السجين من السجن بعد فترة طويلة . فهذا الإنسان المتقاعد ما اعتاد على أن يجد الوقت واسعا طويلا  لكل ماقد فكر أو يفكر بعمله. هذه الحالة الغير طبيعية تشبه شعور السجين الذي أمضى فترة طويلة في السجن  و يُخشى عليه هذا القدر من الحرية عند خروجه. والمتقاعد أيضا ما اعتاد على هذا الأمر الذي يسمونه البطالة . فراحت مراكز الخدمة الاجتماعية تصدر البرامج وتضع الخطط التي  تُشغل هذا المتقاعد وتستغل له وقته الذي أصبح عاجزا عن أن يعيشه ويتعايش معه. هذا الانفصال بين الوقت والإنسان سببّ فجوة عميقة في تكيف الإنسان مع الحياة وفي تقبله لأمور كثيرة متعلقة بحياته  .
هناك فئة حاولت أن تضيق الفجوة لكنها في الحقيقة عمّقتها. بنشر ثقافة التخطيط الآلي  للوقت. و وضع الساعات والدقائق في سجلات وإجراء العمليات الحسابية عليها. وربط المستقبل بجداول تقيد حرية الشخص في صرف وقته ولو كان هذا التقييد في لا وعيه . أيضا ترسيخ مفاهيم استهلاكية مثل أن إهمال الأجندة  فشل , عدم الالتزام بالخطط عجز . ينسى هؤلاء او يتناسون أن الجزء الأكبر من ظروف الإنسان  التي تحدد نجاح مسيرته تتحكم بها أقدراه وحظوظه أكثر من إرادته أو ارادتهم .
عودة للمقاربة المستهلكة ربما بطريقة أخرى. المال الذي تصرفه لا تحسبه بالكم دائما. عندما تتأمل ستجد أنك كثيرا ما تقيّم فائدته وتحكم عليه بما كان له من النتيجة والأثر على حالك. أليس وقتك الذي هو عمرك وحياتك أحق بذلك ؟



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...