التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القراءة البطيئة وخطر الإندثار

العالم سريع جدا , و كل الأشياء تسعى لمواكبة تسارعه لكن فعل القراءة عندما يخضع لهذا التسارع سيفقد الكثير من معناه  و من مردوده . و لن تكون النهاية سعيدة بالنسبة للقراء .
كنت سابقا , أدخل تحديات القراءة في good reads  وفي غيره , 50 كتاب في العام , 70 كتاب وهكذا ألزم نفسي بعدد معين بالكتب خلال مدة محددة . هناك مايحفزك بالتأكيد أن تنتهي من كمية كبيرة من الكتب في فترة وجيزة , أن تنتقل من كتاب لآخر بهذه المرونة والسرعة . أن لاتمل بسبب بطئك وقضاء وقت طويل في قراءة كتاب واحد . أنك أحيانا تحتاج القراءة السريعة لتثبت أنك منجز ومنتج وأن أجندتك اليومية مليئة بما يكفي .

لكن تراث كامل أسماه نيتشه " القراءة البطيئة " معرض للإندثار من دون ترك أي أثر , أيام نيتشه كان مُعرضا للإندثار , مالذي سيحصل له الآن ؟ ونحن في عصر التكنولوجيا والكتب الالكترونية و ثورة التواصل اللامتناهي !. بالنسبة إلي لم أستطع تجاوز هذا الأمر وبدأت في تحليل العلاقة بين السرعة والمخرجات من عملية القراءة . معيار كتاب في الأسبوع كنت أراه وسطا, كان يناسب أغلب الكتب التي أقرؤها ما بين 200-300 صفحة دون تفريق بين المجالات الأدبية عن الفكرية والعلمية . بمعنى أن الكتاب الذي يتجاوز أسبوعا هو عقبة في سبيل استمرار القراءة والانتقال إلى قراءات جديدة . إذاً كان النظر إلى الكتاب كعقبة هو مشكلة حقيقية ! الكتاب الذي يأخذ من وقتك ويجهدك ويجعلك تبذل مجهود فكري أكبر هو عقبة بهذه الطريقة !

في مقال نشر على الواشنتن بوست بعنوان "Reading isn't race "   ترفض الكاتبة جعل عملية القراءة شكل من أشكال الاستهلاك والكفاءة الانتاجية مستميتة في الدفاع عن القراءة البطيئة المتعقلة , الهادئة المتواصلة تواصلا كاملا مع الكاتب والنص , المندمجة في الفعل بالكامل .وتذكر بأن النصوص الجيدة هي النصوص التي لاتنضب التي تجعل القراءة وإعادة القراءة مرة تلو المرة هي شيء متجدد وذا  قيمة مضافة  .تتساءل كيف نجعل عملية القراءة شكل من أشكال السباقات أو نُخضعها لمعايير الكفاءة أو الإنجاز؟

تحويل التركيز من النص وطريقته وعلاقته إلى الوقت المستهلك في القراءة وعدد الصفحات . ومن الفوائد والمخرجات من عملية القراءة إلى كمية الكتب التي تمت قراءتها خلال فترة معينة هي مشاكل حقيقة تواجه القارئ السريع " دودة الكتب " كما يسميه البعض . ولعلك تلاحظ أن الكثير من القراء وهذا – ما ألاحظه شخصيا – يلتهم الكتب , يقرأ عدد كبير جدا في فترة وجيزة ! لكنك لاتجد أي أثر لقراءته في كتابته أو في أفكاره أو حتى حديثه ! القراءة الجيدة كما يقال تنتج الأفكار وتثري القارئ . لكن وكما  يظهر لي أن القراءة بطريقة السباق لاتفعل ذلك .


توماس نيوكريك , مؤلف كتاب  "  The art of Slow reading "   لا يعتبر القراءة السريعة التي يروج لها أصحاب الإنتاجية والتنمية البشرية قراءة فعلية وإنما مسح سطحي ! " it's  not reading actually it's scanning "  ويعتبر أنه من الواجب دائما أن نتذكر لماذا نقرأ ؟ وأن نحرص على  أن نأخذ الوقت الكافي عندما نقرأ . لا يتعلق الأمر عند نيوكريك بالهدف من الأساسي من القراءة فقط , ليس التعلم والفهم والحصول على معلومات جديدة وإنما يتعلق أيضا بالمتعة التي تخلفها القراءة وكيف أن القراءة السريعة تقتلها .



مؤخرا ظهرت أندية قراءة تهدف إلى ما هدف إليه نيوكريك بإعادة مفهوم القراءة العميقة لأذهان القراء
, حيث تجعل أندية القراءة العادية القارئ محدودا في الغالب بوقت معين, يقرأ الكتاب مع المجموعة التي يقرأ معها ثم يجتمع معهم للمناقشة بحيث قد يكون هذا الوقت غير كافي ولا مجدي لقراءة متعمقة , كما أنه قد يحرض القارئ  على القراءة السريعة ليلحق غيره . لكن نادي القراءة البطيئة في نيوزيلندا الذي تأسس في 2014 م أتى بفكرة مغايرة تماما , شعاره : جسد هادئ , عقل متعطش , قلب مفتوح . يجتمع فيه الأعضاء مرة كل أسبوع ثم يقضون ساعة كاملة صامتة , بدون هواتف بدون مشتتات , في عدد صفحات معين يقروأنها قراءة صامتة ويكتبون ملاحظاتهم ويناقشون أنفسهم حيال مايقرأون .




ألا نحتاج نواد للقراءة البطيئة مقابل كل أنشطة ودورات القراءة السريعة التي يروج لها هنا ؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...