التخطي إلى المحتوى الرئيسي

انحناءة غوته الخالدة


"Carl Rohling 1887,"The Incident in Teplitz

" ما أروع أن يشعر الإنسان ببعض العظمة والاعتداد بالنفس.  بالأمس وبينما كنا في طريق عودتنا إلى البيت قابلنا أفراد العائلة الإمبراطورية في الطريق . رأيناهم قادمين نحونا من مسافةوعندما اقتربوا منا سحب غوته يده من يدي لكي ينحني عن الطريق . حاولت كل ما بوسعي ثنيه واقناعه بمواصلة السيرلكن دون جدوى ! وبينما أنا أمشي قبالة الجميع كنت اضغط قبعتي على رأسي بنزق واحكم إغلاق أزرار سترتي واثني يدي خلف ظهري .ولاحظت أن الأمراء وكبار الحاشية والأعيان افسحوا لي جزءا من الطريق . الارشيدوق (رودولف) رفع قبعته باتجاهي محيينا بينما رفعت الإمبراطورة يدها لي بالسلام ,إذن فهؤلاء الناس العظماء يعرفونني ! هكذا حدثت نفسي .  لكنها كانت لحظة من أغرب اللحظات وأكثرها طرافة عندما رأيت الموكب يمر من أمام غوته بهدوء ولا مبالاة , كان ما يزال واقفا هناك إلى جانب الطريق متكوما على نفسه ونازعا قبعته وخافضا رأسه إلى الأرض بأقصى ما يستطيع «
بيتهوفن متحدثا عن موقف حصل أثناء لقائه بغوته في "تبليتسة" .

يحمل موقف مثل هذا أهمية ورمزية تحمل للمثقف والفنان اعتبارات كثيرة ,وتؤثر بمقاييس كثيرة في فهم وتفسير أفكارهم واتجاهاتهم  . يتحدث بيتهوفن هنا عن موقف جمعه بغوته  يعبر فيه بيتهوفن بكل صراحة رغم العلاقة الجيدة التي تربط الاثنين, ولامجال هنا إلا للحكم من منظور واحد ومن رواية واحدة يتحدث فيها بيتهوفن ولانجد مايؤكد أو يبرر من الطرف الآخر . يشرح ميلان كونديرا في (الخلود) هذا الموقف طبقا لمذكرات أخرى , أن بتهوفن عندما رأى الموكب لم ينحني ولم يرفع قبعته كما هي العادة  , إنما غرزها جيدا في رأسه وشابك بين يديه خلف ظهره ومشى مستقيما رافعا رأسه أمام الموكب ولم يتلفت إلا ليرى ما فعل صاحبه , فرآه –و يا لأسفه -مازال خانعا على أحد أطراف الممر ممسكا قبعته بيده محييا هذا الموكب ! , يرى كونديرا أن بين القبعة المغروزة في الرأس والقبعة الأخرى التي تسمكها يد رجل ينحني بإجلال تقبع أسطورة أدبية  .
الحديث عن المثقف والسلطة لابد أن يتحمل أمور نسبية وعلاقات متشابكة وضبابية , إن الصورة التي يرسمها المثقف عن نفسه على أنه طرف نقيض للسلطة صحتها محدودة جدا ، ولا تكون إلا اسثتناءا  ، فالمثقفين تاريخيا ولدوا وعاشوا وانتجوا وهم تحت سلطة مؤسسات سياسية، خضعوا لها أو تصالحوا معها على الأقل .  فالمثقفين وإن كانت لهم أدوار هامة إلا أنها كانت أدوار غير ثائرة على السلطة دائما , غير ثائرة على الأوضاع السياسية الراهنة لها ومرونة هذا الدور تتسع وتضيق حسب و باختلاف الأوضاع السياسية. ربما كان يلعب شكل النظام السياسي الذي يخضع المثقف لسلطته دورا هاما في تحديد ذلك الدور واهميته والفارق الذي يصنعه . فلا يمكن المقارنة بين وضع المثقف تحت السلطة الشيوعية وبين المثقف تحت سلطة آخرى أكثر انفتاحا  .
بالنسبة للمثقف العربي ولسبب ما , متعلق به أولا –لا يجب نكران ذلك-  و متعلق بالأوضاع السياسية والثقافية في الواقع العربي شعاره " السلامة أولا " , وتلك السلامة تتطلب بالضرورة تجاهل كثير إن لم يكن معظم القضايا التي من هي من واجبه الثقافي , الوعي بها وتحمل مسؤوليتها ثم بث ذلك الوعي وتبنيه .
المثقف العربي –غالبا –  لا يتكفل بإجابات , ولا يتبنى قضايا , أيقونة بلا رمز . وهو وفي حال كهذه لا يتوقع منه معارضة السياسة الراهنة ولا نقدها . حتى إن صمته أحيانا يعتبر بطولة وموقف مشرف بالمقارنة مع المثقف الذين يستظل بظلال بالسياسة ويداري ويحابي أصحابها, الذي يؤيد ويتماهى مع السلطة الغالبة أيا كان شكل تغلبها وآلية تصرفها . يتجلى هذا المثقف بشكل ما في انحناءة غوته للموكب الملكي الذي مر عليه ,  في انحناءة غوته التي ولسبب ما لم تنتقص من غوتة كثيرا لكن دلالاتها باقية   ! 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...