التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مراجعة نقدية لرواية #الحدقي




بين الكتابة التاريخية والكتابة الروائية فرق كبير، وبين الروائي الجيد والمؤرخ الجيد مساحة. تعلق الرواية التاريخية دائما في السرد،  فإما أن ينجو بها من أن تكون نصوصا مملة تسرد التاريخ بعيدا عن الفن الروائي وبدون أن تستطيع القارئ عيش الرواية فيها، وإما أن تنجح وتتجاوز هذه المسافة الشائكة.
الحدقي رواية للصحفي والكاتب الموريتاني محمد فال ولد الدّين، يستخدم الديّن مادتين في روايته الأولى وهي- الأهم بنظري – قصة حياة أبو عثمان عمرو بن الجاحظ،والثانية هي قصة كاتب موريتاني يعمل في محطة إخبارية عربية في الدوحة.
بشكل عام أظن أن الكاتب لم يوفق في الفصل بين الكتابة الصحفية والكتابة الروائية أو أنه لايمتلك الأخيرة ! تلاحظ في أسلوبه وكأنه يتحدث في تقرير صحفي أو كأنه معلق يتنازل صورة أو مشهدا، لايصف لك الصورة بقدر مايعلق عليها، وهذا واضح أكثر في جزء الدوحة من الرواية .
القصة هي الأسلوب كما يقال.. وقدرة الكاتب على إقناع القارئ  بصدق ومنطقية العالم الذي يبنيه هي مفصل نجاح العمل الروائي، والأسلوب هو كل المكونات التي يصنع بها الكاتب قصته: سرد ، حوار، استعراض ،تشبيه، استعارة، استطراد وغيره .
جزئية الدوحة أكثر إحباطا بالنسبة إلي، وأظن أنني لو قرأت الرواية مرة أخرى واستثنيت فصول الدوحة من القراءة لقيّمت هذه الرواية بأعلى من هذا التقييم ولكانت انطباعاتي أفضل . لكن النسيج الضعيف  لجزئية الدوحة وقصة الحب التي لم تحبك بصورة جيدة خلخلت تماسك الرواية بالمجمل. وبت تنتقل من الجاحظ إلى القروي بطريقة ساخرة، لاهي مقنعة ولاهي ممتعة !  القروي و" مطوعة بريدة " الكنية -غير المستساغة ولا الظريفة بحسب رأيي – والمواقف الباهتة التي عرضت قصة حبهم، وكيف يفاجئ القارئ بقرار الزواج(في تسريع مخل للأحداث)، انتهاءا بالمهزلة الارتجالية لمراسم الخطبة (الخليجية ) كانت مأساة روائية فعلا !  وبالنظر إلى السرد الروائي لهذا الجزء فهو مليء باالهفوات الوصفية خصوصا ، فكيف لكاتب روائي متمكن أن يصف مشهدا استفتاحيا بهذه الطريقة "يركض صحفي قصير القامة إلى غرفة المونتاج لتسجيل تقريره، ويركض منتج أخبار فارع الطول للإشراف على منتجة العناوين ..." ! أو عندما يشبه القروي فيقول " كأنه صقر من صقور الصحراء المورتانية " كناية عن سرعة بديهته !! وغيرها الكثير !

جزئية الجاحظ كانت جيدة إلى حد ما، ورغم التفاصيل والأحداث  التاريخية التي استعملها الدِّين في الرواية، إلا أن عنصر التشويق لم يكن متناسبا مع حجم الأحداث التي تضمنتها حياة الجاحظ  وهذا بالتأكيد عائد إلى عدم تركيز الكاتب على إخراج الأحداث بطريقة مشوقة أكثر. لكن هذا الجزء بشكل عام كان جيدا ومُركزا وعرض لنا جوانب كافية عن حياة الحاجظ من صغره وحتى وصوله إلى مجالس الخلفاء وحياة العاصمة بغداد. لكن صوت الراوي يبعث الملل في أحايين كثيرة لا لكون القصة والأحداث باردة ولكن لأن الصوت بعد فصلين أو ثلاثة يعيد نفسه ويكرر نفس الأفكار، بينا لو كان الحاجظ يتحدث عن نفسه من خلال ضمير المتكلم- حسب رأيي-  لكان الوقع أقوى ولكان تطور الشخصية جليّ . 

أخيرا، تمنيت لو ختمت الرواية باستخدام احترافي للنهاية الدرامية لحياة الجاحظ تحت أكوام كتبه (كما تقول الروايات) بدل أن تختم بعرض وظيفي مغرٍ للقروي ونهاية (سعيدة جدا) تشبه نهايات قصص الأطفال.

بشكل عام ولأنها التجربة الروائية الأولى للديّن، فأنا أرجو له نضجا روائيا في محاولاته القادمة.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...