التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عالم من الكائنات الزجاجية !

  ستعرف قدر هشاشة هذا العالم  عندما تكون كلمة ساخرة مقصودة أو غير مقصودة قادرة على قتل  آمال كاملة أو حتى تحطيم حياة . تعرف هشاشته عندما ترى من هم حولك، لايحتملون، ولايتقبلون أصغر انتقاد عنهم . عالم غير قابل لإبداء الآراء ، لأنه برأي واحد وكلمة واحدة قد تحطم كل شيء . عالم تنتشر فيه قصص تأثير الكلمة والكلمتين. لاتستغرب حينما يكتب أحدهم قصة نجاحه  التي استغرقت سنوات حياته كلها وينسبها ، ينسب هذا الرحلة الطويلة لكلمة قالها أستاذه في الابتدائية، أو أخرى رمى بها صديق أو قريب أكيد أنه لم يكن واعيا بها .
مقابل ذلك هناك آخرون صامتون ، على ماهم صامتون عليه .. لايترددون في نسب أي فشل أو خسارة في حياتهم لأمور عابرة جدا مثل هذه .. ولايستنكر عليهم مثل هذا ، كلمة قادرة على تحطيمهم وكلمة أيضا قادرة على إخراج أفضل مالديهم .
موجات الاهتمام بالتنمية البشرية التي احتاجها الإنسان المعاصر، كانت سببا،  إنه قد يموت لو لم يتلق جرعات منها من فترة لأخرى وقد جعلته إنسانا فائق الحساسية تجاه النقد، لايعيش سوى هموم آنية بتحقيق ذاته يتم تجريم من يحطمها ولو بكلمة أو أمر غير مقصود! 
لا أحد يستطيع اليوم التحدث بتلقائية أو إطلاق آراءاه حول الأشياء والأشخاص بعفوية. عالم من المجاملات ، والحديث الإيجابي عن كل شيء ، عالم بدون أي سخرية أو تهكم ، عالم من الكائنات الزجاجية.
هذه الهشاشة برأيي تعبر عن ثيمة معاصرة، تقترن بالرفاهية والاهتمام المتزايد بالأمراض النفسية لدرجة خلقها والتعايش معها. وتبرير للسلبية من خلالها. أي إنسان سيظهر لنا عندما تستمر و تتطور هذه الحالة ؟ أي مقاومين، أي مكافحين، وأي أبطال سيظهرون ؟ يقابل التأثر الايجابي السريع ،تأثرأسرع بكل السلبيات واستسلاما سهلا لكل المحبطات. لا طفل يستحق أن يربى على مثل هذا الأسلوب، ولا إنسان عاقل يستحق أن يظل هكذا.
  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فرجينيا وولف و السيدة دالاوي - مراجعة

رغم كل التحفظ الذي ينتابني من قراءة الأدب الأجنبي ورغم كل أسئلتي الملحة : هل نفهمه ؟ هل نستوعبه ؟ وشكي في ذلك . إلا أن تجربة القراءة العميقة تجعلك على يقين من شيء واحد على الأقل : قراءة العمل الأدبي تجربة شخصية لا أكثر نتائجها شخصية ودلائلها شخصية بحتة . عند الحديث عن فرجينيا لايمكن تجاوز براعة  أسلوبها في الوصف , وفي تفرد شخصياتها , السيدة دالاوي واحد من الأدلة على ذلك . ذلك أنها تشدك , ثم تستفزك ليس فقط بواقعية الأحداث التي تبني من خلالها شخصياتها وإنما إن استطعت القول بتفاهة تلك الأحداث وهامشيتها .والإسهاب فيها , جعلها محورية ومركزية على مستويات متفاوتة.مهما وصلت الواقعية في الكتابة إلى مستوى عال من الدقة ومن التطبيق فهي لاتمثل الواقع كما تقول فرجينيا إلا من جهة واحدة , من وجهة الكاتب فقط من الجهة التي تراها عينه . السيدة دالاوي أو كلاريسيا هي محور هذه الرواية وعلاقتها ببيتر هي العقدة -على الأقل هذا مافهمته - .كل الأحداث كانت من زواية ما تعني السيدة دالاوي ,تتناول الرواية يوم واحد في حياة السيدة دالاوي والأبطال الآخرين , يوم واحد فقط امتلأ بكل هذه التفاصيل . تبدأ ...

مراجعة لكتاب (تغير العقل )

(تغير العقل:  يف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا ) كتاب نشرته المؤلفة سوازن غرينفيلد  في عام 2015 وترجمته إلى العربية سلسلة عالم المعرفة. يتمثل الهدف الرئيس من الكتاب كما تذكر غرينفيلد " في استكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية وإنما أيضا في نمط الحياة والثقافة والتطلعات الشخصية . سوازن سمت كتابها " تغير العقل " قياسا على " تغير المناخ " كما ذكرت في مقابلة مع "الغارديان " حيث تظن أن درجة الخطورة  التي تسببها التقنية على عقولنا توازي مايسببه تغير المناخ  على  الطبيعة من تبعات. جاء الكتاب في مايقارب 350 صفحة مقسمة على 20 فصلا تناول موضوعات تدور حول العقل والتكنولوجيا . ربما لتمر على القارئ العديد من المقالات التي تتناول الوجه السيء من التقنية  والآثار السلبية الاجتماعية والتواصلية لها . لكن ما لفتني في هذا الكتاب أنه يتحدث عن عقولنا قبل وبعد التقنية , مالذي تغيره التقنية في طريقة تعلمنا ؟ وفي مناهج تفكيرنا وفي آلية اتخاذ قراراتنا  ؟ أسئلة مهمة تجيب عنها غرينفلد من خ...

تقييم العمل الأدبي

كنت أتساءل  ما الذي جعل يوليسيس أو دون كيخوته أعمالا أدبية ناجحة ؟ و مالذي جعل قصائد شكسبير لا تتقادم ؟ ما الذي يجعل عملا ادبيا ما عملا جيدا أو عملا ردئيا؟. معايير معينة تخضع لها كل الأنواع منها الجدة والابتكار, الطرح الجيد, التماسك, الوحدة الشكلية, الإبداع الفني وغيرها مع أن لمختلف الثقافات معايير متباينة لتقرير ما الأدب الجيد وما الأدب الرديء إلا أننا نكتشف دائما أن الأعمال الرفيعة هي التي اتفق القراء على جودتها بغالبيتهم. ووجود ضوابط معينة  تمثل حد أدنى لاعتبار العمل الأدبي ناجح وعابر لحدود زمانه ومكانه لايعني أن كل جوانب النجاح في العمل تم ضبطها ومعرفتها لأنه في كل مرة يُقرأ فيها العمل الأدبي قد يظهر شيئا جديدا كان سبب بقاء ونجاح العمل.  لكننا قد نجد بشكل عام أن تلك الأعمال التي توصف بالأدب الرفيع أو الجيد والتي تحصل على اتفاق بجودتها  في الغالب هي ما تناولت ملامح التجربة الإنسانية  التي تتصف بالدوام والتي لا تتغير ولا تفنى , تلك الموضوعات العابرة للزمان والحدود الجغرافية, في الفرح والمعاناة والألم والموت والعاطفة, أو التي تناولت أسئلة كبرى منها ال...